فى المنتصف من هذا الشارع الضيق المسمى شارع أديب والذى يربط بين شارعي صلاح سالم (شريف سابقا) وسعد زغلول يقع مطعم وبار "الكاب دور" أو" الشيخ علي" وهو الاسم الذى اشتهر به. تأسس البار سنة 1900 على يد شريكين يونانيين وشريك فرنسى. اختاروا هذا المكان الحيوي داخل الإسكندرية الجديدة مابعد حملة 1882ً، القريب جدا من نبض حركة التجارة والبنوك. عدة خطوات من البار وتصل لشارع شريف حيث البنوك الأجنبية والبورصة، ثم عدة خطوات أخرى وتصل لميدان المنشية. لذا فالبار كان يعيش تحت جيوب وعيون الباشاوات والبهوات ورجال التجارة الساهرة على حركة أموالهم فى تلك الشوارع والميادين. ربما مامنح هذا البار شهرته هى المفارقة الكامنة فى اسم الشهرة " بار الشيخ علي"، فكيف يجتمع الشيخ والبار فى جملة واحدة؟ هناك روايات كثيرة عن اسم الشهرة هذا، ولكني لم أصدق أياً منها، أو بمعنى أصح لم أعرها أذناً مفتوحة، حتى تلك التى رواها عم جمعة، أحد الورثة والقائم بإدارته. الذاكرة السكندرية التى أفسحت مكاناً لهذه المفارقة عايشت مفارقات عديدة من هذا النوع، بالتحديد فى نمط الحياة الذى جمع بين الشيخ والأجنبي فى بيت واحد فى إسكندرية النصف الأول من القرن العشرين. وربما تسربت بعض ملامح منها إلى حقبة الستينيات، وهى الفترة التى آلت فيها ملكية البار من ملاكه الأجانب للمالك المصرى. يقال إنه تم بيعه برخص التراب بعد تغير مناخ البلد وصدور قوانين التأميم بعد الثورة. كأن الاسم جاء ليخلد أو يودع تلك الفترة.قبل أن تدلف إلى البار سيستقبلك عم جمعة المرابط كالأسد على كرسى على الرصيف المقابل للباب. يراك من أول الشارع المظلم سواء جئت من ناحية شارع سعد زغلول، أو من ناحية شارع صلاح سالم، لينتفض من على الكرسى، ويتعمد أن تراه وهو ينتفض. ثم ينحني انحناءة مبالغ فيها وهو يسلم عليك ووجهه فى الأرض، كأنه يقدم أوراق اعتماده كسفير، ليوحي لك باحترام خاص. لتدخل البار ونفسك مفتوحة وممتلئة بالزهو من هذا الاستقبال الملكي، لتسدد هذا الدين المعنوى وتحوله إلى زجاجات متناثرة من البيرة، وعدة أطباق من البساريا، والسبيط المقلي، والبطاطس المقلية وأطباق البربون. فهذه الانتفاضة ترى بوضوح تلك الفاتورة المكتوبة بشخبطة لن تفهم منها شيئاً مهما دققت فيها، وفى نهايتها رقم واضح يجب أن تدفعه بحساسية الرجل اللارج الذى لايدقق فى التفاصيل الصغيرة والتافهة لفاتورة حساب.
[تصوير سلوى رشاد]
كان عم جمعة فرحاً بالمشاهير الذين يأمون باره، سواء كانوا من أهل السياسة أو الفن أو الأدب. بمجرد أن أدخل ونستقر على المنضدة التى سنجلس عليها، أنا ومجموعة الأصدقاء، يقف عم جمعة ليسرد أمامهم أسماء المشاهير الذين مروا بباره خلال فترة غيابنا. لقد تحول البار فى الألفية الجديدة إلى مزار سياحي، سواء للسياح، أو للأجانب المقيمين أو للمصريين، والذين يبحثون فى الإسكندرية عن رمز سكندري يضاهي الصورة النوستالجية التى فى خيالهم عن الإسكندرية. بعكس فترة التسعينيات، التى كان فيها البار ليس له تصنيف أو رمزية، سوى المزايا التى يوفرها: قائمة المأكولات البحرية، وسهره حتى الساعات الأولى من الصباح. وكذلك استمراره وسط موجة انحسار البارات فى تلك الحقبة وسط مظاهر التدين التى أخذت تتصاعد وتيرة عنفها فى بداية التسعينيات. وهى الفترة التى تعرفت فيها على هذا البار، وأصبح واحداً من الأماكن الأثيرة، هو وبار الوطنية، وسبيت فاير، والفردوس، للتغلب على كثافة وثقل ليل الإسكندرية الطويل الممل الخالي من الشجن.
كان البار يقف فى المنطقة الوسط بين البار الشعبي وبار الفندق. منطقة كادت أن تختفي تماماً من المجتمع المصرى. لم يكن يشغلها فى بارات الإسكندرية المتبقية سواه. وربما لهذا السبب جمع شرائح كثيرة ومتنوعة بداخله، أجانب وكتابا، وفنانين، وتجار تحف وذهب، وأناسا عاديين، ومهندسين، وأطباء، وبحارة، وبعض عائلات الطبقات الراقية القديمة وأولادهم وبناتهم ممن واظبوا على الشراب أثناء فترة تأسلم المجتمع. أصبح البار رمزاً يمكن أن يلتف حوله الكثيرون، ليحقق لهم إشباعاً لصورة ما، سواء عن الإسكندرية المفقودة، أو عن أنفسهم. كان " بار الشيخ علي" يلعب فى ملعب ليس له منافس فيه. ولكن الأهم أن أي فئة أو مجموعة أو طبقة لايمكن أن تُميز من الآخرين، فتنوع طبقاته وشرائحه وزبائنه ذوب أي عين طبقية، أو لم يجعل لعين واحدة الغلبة، يمكنها أن تراقب الآخرين وتصنفهم ضمن حدود معينة، سوى الحدود العادية للآخرين التي تعلق بالذاكرة عند مرورنا المتعجل بهم. ربما لهذا السبب سمح البار بهذه الحرية للخروج والدخول بدون إى إحساس بأنك تنتمي لجيتو اجتماعي أو ثقافي كما كان يحدث فى بار الوطنية. وكان عادياً أن تصطحب صديقتك وتمضي السهرة هناك، فوجود المرأة والفتيات داخل البار أمر عادي، بعكس بار الوطنية الذكوري الذى كان ممنوعاً فيه وجود المرأة بالرغم من عدم وجود قانون لهذا، ولكن أصحابه رأوا أن وجود المرأة ربما سيسبب أزمات وخصومات ومعارك بين تلك النفوس الشقيانة والملتهبة، خصوصاً فى وجود الخمر، لذا آثروا أن يفرضوا هذا القانون. كانت الحدود مصانة بين المجموعات التى ترتاد الشيخ علي، خصوصا بين الزبائن الدائمين.
تدلف من الباب الزجاجى، تواجهك ظهور الجالسين على البار الخشبي ذى الرخام الرمادي، ثم التفاتاتهم ليروا القادم الجديد. يلفح وجهك هواء التكييف البارد، وصوت اهتزاز أوتار العود، تتلفت بحثا عن مكان، يقترب الجرسونات منك بالسلام الحار. تتنقل بعينك ليس بحثا عن أحد، ولكن لتمرير تلك اللحظة الحرجة. لاترى أحدا، بالرغم من يقينك بأن كثيرين تعرفهم. لحظات ويتكشف الوضع كأنك فى دار سينما بعد أن استوعبت لحظة الانتقال من النور للظلام. تتعدى الغرفة الأولى للغرفة الثانية مرورا بالبار الخشبي الذى يقع فى المنتصف بين الغرفتين، وتلك الغرفة الضيقة الخاصة التى تقع خلفه مباشرة. كنت أشبهها بالبدروم الذي لاتلجأ إليه إلا فى أوقات الخطر. لم أكن أحب الجلوس بها، ربما أعاني من فوبيا الأماكن المغلقة. لا يمكن أن تمنع أذنك من أن تلتقط الأسرار التى يخرجها الخمر على السطح. تحولت إلى غرفة أسرار جماعية، أو غرفة اعتراف جماعي. أحيانا كنا نصادف بها فتيات محجبات، ورجالا يفوقهن فى العمر. كان أغلب من يفضل هذا العزل الاختيارى يريد مداراة خلل ما سيشعر به ويتكثف لو جلس فى الغرفتين الأخريين.
لم يكن بالبار أى رمز أو صورة من صور النوستالجيا للإسكندرية القديمة سوى عوامة من الفلين التى تستخدم للإنقاذ فى البحر، وربما أهداها لهم أحد البحارة الذين كانوا يمرون بالبار عند رسوهم فى الميناء. بالإضافة لبعض الصور لطفل صغير يمتطي حصانا وآخر كبير يمسك باللجام، ومكتوب عليها "ابن المحافظ"، وصور أخرى لسباقات الخيل. تعود الصور لفترة الستينيات ومأخوذة فى أحد النوادي، ربما هو نادي اسبورتنج فهو النادى الوحيد الذى كانت تجري فيه مراهنات الخيل. لم أسال ولامرة عن سبب وجود هذه الصور، لم يكن لها أى تأثير يجعل فضولك يستثار لتسأل عنها. كانت صور عادية ولامعنى لها ألا كذكرى خاصة جدا لأصحاب البار، لذا ظلت معلقة على الحائط قرابة خمسين سنة. بالإضافة لمجموعة من زجاجات الخمور الأجنبية مرصوصة على أرفف خشبية يتوسطها دولاب خشبي تحفظ داخله زجاجات النبيذ. العلب الكرتونية الأنيقة الفارغة لزجاجات الخمر كانت مادة أساسية فى ديكور المكان. فى نهاية الغرفة الأولى يسارا يوجد باب آخر من الخشب المطعم بمربعات من الزجاج، كأبواب الغرف التى كانت تستخدم فى البيوت القديمة، ولكن بنسب أكبر. كانت مربعات الزجاج لهذا الباب مطلية بلون أخضرلحجب الرؤية عما يقع وراءه. لم أر هذا الباب مفتوحا أبدا، ولن تجد له منفذا آخر مستقلا خارج المحل. منفذه الوحيد داخل البار. عندما سألت عم جمعة أجابني بأنه مخزن مغلق. مهما كانت إجابته مقنعة فلن تمنع نفسك من أن تتخيل وجود سر يقع خلف هذه الغرفة المغلقة، يرتبط بأحد أبناء العائلة المجذومين، أو الهاربين من قضية ما. أحيانا يتفرع هذا السر المصمت فى مخيلتي إلى مخطط رواية عن شخص يختبىء بالداخل ويقوم بإحصاء هذه السنوات المنفلتة من الغناء واللهو الرقص والسكر، لحساب سيأتي فى المستقبل وتصبح هذه السنوات رمزا لفترة هامة فى تاريخ الإسكندرية. هناك إحساس بأن أي فترة تمضى بها خسارة وانتقاص لصورة الإسكندرية. إلى هذا الحد صنعت الذاكرة صورة مستحيلة للإسكندرية، كلما اغترفت منها ومضى عليها الزمن، زاد طغيانها. ربما السبب أننا نركب القطار الخطأ. فكرت أن يكون هذا الشخص هو أحد البحارة الأجانب الذي تخلف عن استكمال رحلته واختار أن يعيش داخل هذه الغرفة. يخرج بعد خروج آخر زبون، ويعود قبل وصول أول زبون. وخلال هذه الفترة يقوم بتأليف هذا الكتاب عن أحد وجوه الإسكندرية من واقع الأحاديث التى يسمعها كل يوم فى سهرات البار.
كنت أشعر بأن داخل هذا المخزن حياة أخرى لها نبض قديم مختلف يختلط حثيثا بنبض حياتنا فى البار. وفى الأوقات التى يجيء فيها نصيبى وأنا جالس على المنضدة وظهري لهذا الباب الخشبي، كنت أرهف السمع لألتقط أى إشارة تأتي من هذا العالم القريب. هناك صادفت الكثيرين من زملاء المدرسة والجامعة، من سقطوا سقوطا طبيعيا من ثقوب الذاكرة الواسعة. هؤلاء هم من حافظوا على هذا المضيق من المتعة بعد أن تخلى عنه الكثيرون. نبتسم فى وجوه بعضنا البعض، وأحيانا كثيرة لا نسلم على بعضنا البعض مكتفين بالابتسام من بعيد كأعضاء فى جماعة سرية لا يريدون أن يفتضح أمرهم وسط أعضاء المجتمع الكبير. كان من السهل أن تحدس ببعض الخيوط الأساسية التى شكلت هذه الوجوه القديمة التى تصادفك هناك، ولهذه الحياة التى كنت غائبا عن تتبع تفاصيلها. فزيارة " الشيخ علي " لم تكن فقط كأي زيارة، ولكنها تكشف عن انتماء له مغزى لهامش صغير من المتعة نجا، أو استقل، من تلك الحسابات المعقدة مع النفس حول الذنب والعقاب التي غطت على جل نشاطات العقل والقلب بداية من تسعينيات القرن الفائت. كان البار مصيدة للذاكرة الهاربة لوجوه وسنوات وأحداث جسدها هؤلاء العابرون به.
لا يوجد زمن محدد يفرض نفسه عليك هناك. كان البار يربي بداخله زمنا عاما محايدا. أى حواف زمنية حادة أو خشنة تنكسر على حواجز هذه السيولة للصوت والرائحة والأجساد. موجات لاتهدأ من الصخب والموسيقى ورائحة البساريا والبربون والجندوفلى، وعطور النساء، والأضواء الخافتة، والزحام. زمن دائري أملس يذوب فى داخله الجميع. تتلاصق الأجساد المتراصة على البار الخشبي، وفى الممشى الواصل بين الحجرتين، تتمايل. قبلات مسروقة، أو متمناة. أزيز شهوانى يغطي على أزيز كهرباء التكييف. قمم الرؤس وقد حف بها الضوء وسال على أكتاف عارية وسط درجات بينية من العتمة ودخان السجائر. لحظات تفور فيها رغاوى النشوة سميكة القوام فى هذه الساحة الضيقة، تشد أي نفس خارج زمنها الخاص. يتسلل أحدنا للرقص، أو يرقص فى مكانه. تتصاعد أصوات بالغناء، سواء مع نغمات العود التى تأتي من بعيد، أو بأغنية خاصة يتردد صداها فى البار من أرشيفه الشفهي الذى يحتفظ به بين جنبات رددت هذه الأغاني كثيرا.
أم كلثوم وعبد الوهاب وفايزة ونجاة ووردة، وعبد الحليم، وسيد درويش، هم أعضاء هذا الأرشيف. ولكنهم لم يشدوا البار لزمنهم، بل شدهم البار لزمنه الخاص. عندما أسمع أم كلثوم أو سيد درويش أو وردة وسط هذا الصخب والعلاقات المتشابكة وروائح السمك والجندوفلي، أسمعها كخلفية لحدث أساسي يجري فى المقدمة. أما لو سمعتها فى بار الوطنية، فهي الحدث الجوهرى ولا خلفية وراءها إلا قلوبنا الساقطة فى خل الذكريات.
[تصوير سلوى رشاد]
دائما ماكنت أتخيل أن هناك مالكا آخر للبار، وأن عم جمعة ليس إلا قناعا لهذا المالك الغائب. كان يصلح لأن يكون بودي جارد وليس مالكا. أو مالكا لإحدى خمارات العطارين. اضطر أن يتعايش مع حياة لم يكن له يد فى اختيارها سوى الميراث. امتلاك بار فى العقود الثلاث الأخيرة أصبح كمن يقود سفينة وسط بحر متلاطم الأمواج. فقد حكى لى صاحب بار "سبيت فاير" الذى يقع فى شارع البوستة وعلى بعد عدة خطوات من "بار الشيخ علي" عن صعوبة استمرار البار وسط المحال التى تحوطه. مكتبة لبيع الكتب التراثية الإسلامية، وجزار ملتح، وغيرها من المحال التى تحمل اتجاها إسلاميا واضحا، وجميعها عرضوا عليه بيع البار لهم، ورفض. كل يوم يحاول أن ينسى أو يتفادى تلك البصقات التى تُبصق أمام باب البار. كانوا عدة أخوة شركاء فى هذا الميراث المؤلم الذي لم يعرفوا كيف يتصرفون فيه، أو فى أنفسهم، بينما المجتمع يتحول ويتنكر لهذه المهنة. كانت هناك بذرة دامية مزروعة فى هذا الميراث وستؤدي حتما إلى هلاك ما، خناقة بين الأخوة، لتنهار بعدها هذه الشركة. هذا الإحساس بالذنب، من حرمانية تجارتهم، والذى بدا يتنامى ويبطن علاقاتهم وردود أفعالهم ببعضهم البعض وبمن حولهم. مهما كانت درجة صلابتهم سيتسلل هذا الإحساس إلى دواخلهم ليصبح كعب أخيل الذى سيفجر بينهم النزاعات. كأنهم يروضون وحشا فى أي لحظة يمكن أن يلتهمهم.
عم جمعة كان مختلفا فى إدارته للبار. لاتشعر بأنه متورط فى أي إحساس بالذنب أو بالخوف من كون باره أصبح جزيرة مخمورة وسط بحر إسلامي محافظ. فى عز أوقات الهجوم من الجماعات الدينية المتشددة على البارات، كان عم جمعة لا يبالي بما يحدث حوله. وأحيانا كان يترك الباب الصغير المطل على شارع أديب مفتوحاً للرائح والغادي عارضا هذه الحياة الغريبة التى تجري وقائعها بداخل باره على عينك يا تاجر. كان مستبيع، أو يصدق تماما فى أن "حياة البار" يمكن أن تعيش بجوار "حياة الشيخ". عم جمعة كانت له هيئة صايع قديم. له يد ملاكم معتزل، أصابع ضخمة تورمت من كثرة الشقا والضرب، تبلع أي يد تمد إليها. تشعر وأنت تسلم عليه بأنك قزم. ملامح وجه ضخمة يحاول أن يرققها كصاحب بار يتعامل مع أناس حساسين أصحاب مزاج. عند السلام ينعم صوته وهو ينحني، كأنه يغافلك بانحنائه حتى لاتلحظ صوته الغليظ، ثم يفشخ شفتيه عن ابتسامة عريضة يصحبها حالة تواضع وتسامح ملائكيين يكسيان وجهه كأنه طفل صغير مذنب يطلب منك العفو. ولكن كل هذه العمليات والتغطيات التى يجريها لملامح وجهه وصوته وشفاهه الغليظة التىيتنطق كلمة "ميرسي" بافتعال كأنه يدس إصبع محشي فى أنفه؛ لم تخف وجه "الصايع القديم".
من علامات البار ذلك العواد الذى يأتي كل مساء ويتخذ كرسيا منزويا ويبدأ فى العزف والغناء حسب طلب الجمهور. لم يكن عزفه جميلا ولاصوته، ولكنه يصنع حالة نشوة مصطنعة يحتاجها رواد البار. كان له وجه مقطب على الدوام وقليلا مايبتسم. عند دخوله يسير وسط المناضد يحيي الزبائن قبل أن يعثر على ذلك الكرسى الخالي، وإن لم يجده يظل واقفا حتى يفرغ أحد الكراسى، وإن لم يفرغ أحد الكراسي يظل واقفا يتنقل مع عوده وموسيقاه من ترابيزة لأخرى. كان عوده مثل طوق النجاة الفلين معلقا على أحد الجدران. كنا نطلق عليه لقب " المنجد" كونه يتعامل مع العود كآلة تنجيد وليس كآلة تصدر نغمات. عادة كانت تستدعيه إحدى الترابيزات وتجلسه بجانبها وتطلب منه بعض الآغنيات القديمة، وما عليه ساعاتها إلا أن يتحول إلى آلة تسجيل. كان هدفاً للسخرية والكثير من الإهانات والمألسة التى يبتعلها بصدر مغلق، كأنه لم يسمعها. ولكن هيئته الجادة كانت خطاً أحمر تتوقف عنده هذه الإهانات. لم أجده يوما يشرب كأسا أو زجاجة بيرة. هو وأحد الطباخين، دائما ما كنت أرى فى عيونهما نظرة بها سخرية مبطنة لزبائن البار تطل خلف ابتسامتهما المفتعلة. كانا ينتميان لذلك الفريق الصامت من العاملين الذى لا يبدي أى انفعالات أو يشترك فى أى حديث، ويظل شاهدا على هذه المساحة من العقل الباطنى للبار.
من أطرف الزبائن الذين قابلتهم هناك " الكابتن بوري". كان أحد لاعبي فريق الأوليمبي فى عصره الذهبي عندما حصل على بطولة الدوري العام، ثم اعتزل اللعب بعد هزيمة 67، واتجه إلى مجال التدريب. غاب عن الإعلام لفترة طويلة كان يدرب فيها أحد أندية اليمن، ثم عاد مدربا لفريق الأوليمبي العائد حديثا للدوري الممتاز. كان الكابتن البوري زبونا دائما فى البار، وأحيانا كان يعقد اجتماعات مع مساعديه لمراجعة الخطط واستراتيجيات اللعب! وفضح أسرار المجتمع الكروي فى الإسكندرية ومدى تشابكه مع مجتمع النساء! كانت نكتة بالنسبة لي، ولكنها نكتة حقيقية. وبالطبع هبط الأوليمبي مرة أخرى لدوري المظاليم، واستمر الكابتن البوري فى التردد على البار حتى وفاته. لم يحظ فريق النادي الأوليمبي بأى شعبية فى الإسكندرية، باستثناء السنوات التى تلت حصوله على بطولة الدوري العام فى الستينيات. أصبح مثل أندية الشركات، تلعب فى صمت استادات خاوية كأحد الأندية السرية. بعكس نادي الاتحاد السكندري الذى احتكر حب جماهير الكرة فى الإسكندرية. لاعبو الاتحاد كانوا يتحركون فى شوارع الإسكندرية، بعد اعتزالهم، وفوق رؤوسهم هالات نجوم الصف الأول من الممثلين. أشهرهم الكابتن "بوبو" الذى كان يقف على محطة ترام الإبراهيمية كتمثال شمعي يتلقى نظرات المعجبين. كان الكابتن "البورى" هو الممثل لهذا الجيتو الرياضي السكندري فى البار. لقب " الكابتن" هو ما تبقى من أيام المجد، يجعله يبتسم عندما تناديه به، كأنك صادفت أحد ممثلي الصف الثاني الذين يتنشقون على نظرة إعجاب. كان راضيا بتلك الهمهمات القليلة التى تتناثر من حوله أو نظرات الإعجاب الخافتة التى توجه إليه.
مصطلح "النجومية" أو "النجم" فى الإسكندرية سيختلف عن مثيله فى القاهرة. سواء للممثلين أو لاعبي الكرة، أو الكتاب. المصطلح هنا منزوع منه الدسم مثل الألبان خالية الدسم. فتعمد الكابتن "بوبو" الوقوف كالتمثال الشمعي لسنوات على محطة ترام الإبراهيمية، كأنه يستجلب نظرات الإعجاب بموتور من باطن الأرض، وبدون هذا لن يشعر بنجوميته أو بتلك الهالة أو أورثتها إياه الجماهير فى الملاعب الخضراء. كان قدر إشعاع "النجوم" فى سماء الإسكندرية له تأثير وبريق محددان، وأحيانا يتداخلان بسهولة مع الحياة العادية بدون فاصل بينهما، ويحتاج دائما إلى شحن ذاتي من النجم نفسه، وإلا سيدخل دائرة النسيان.
[تصوير سلوى رشاد]
من فريق الزبائن الدائمين الذين تطمئن لوجودهم لو رأيتهم فى البار، هذا الشاب الذى كان يملك محلا للتحف والأنتيكات فى شارع فؤاد. كان فى نهاية العقد الرابع، ويلبس بدلا على الدوام بدون رابطة عنق ويضع بدلا منها منديلا حريريا، كأحد الوجهاء القدامى. كان له حساب مفتوح وزجاجة محجوزة من النوع الفاخر من الويسكي. عند دخوله يلتف حوله الجرسونات. عندما يرانا ندخل يرفع كأسه من بعيد علامة التحية محتفظا بتلك المسافة التى يتلألأ فيها الكأس. كنت أرى فيه الزبون النموذجي لهذا المكان. هو الذى سيستمر، أما نحن شلة الأصدقاء فسنخرج كما دخلنا بدون أسف. كانت جذورنا قصيرة داخل البار، غير ضاربة فى العمق. كانت علاقته بالخمر لاترتبط بكونه ينتمي لهامش من المتعة يريد أن لا يفقده، بل الخمر لها أصالة فى حياته، هى والأجواء المحيطة بها: الحديث والفتيات الجميلات، والصفقات. كان البار يشكل له حياة كاملة وليست هامشا. مادونه هو الهامش. ربما اكتشف تلك العلاقة غير المرئية بين عالم التحف ذات الملمس الناعم التى يجب ألا تخدش، وبين هذا الزمن الأملس الموجود فى البار. كلاهما خليط لأزمنة متعددة. وكلاهما لا يضعانك أمام مواجهة حادة مع النفس. تظل طافيا حتى تودع الحياة. عند حضوره يتصرف كأنه فى بيته الذى يعود إليه بعد غياب. أغلب صفقاته التجارية والعاطفية كان يعقدها هناك. عادة ماكنت تجد بصحبته فتاة جميلة من الصعب أن تراها فى الطريق العام، عثر عليها كإحدى التحف فى أحد أقبية بيوت الإسكندرية القديمة.
كان الغش فى الحساب من الأعمال اليومية المعترف بها فى شريعة البار. عندما تطلب ورقة الحساب يأتون لك بفاتورة من الصعب أن تفسر فيها كلمة، وتكون روحك مازالت قابعة هناك فى تلك الأقاليم الروحية التى ذهبت إليها فى الحديث مع الأصدقاء حول الفن والأدب والشعر والحياة. فتتقافز عينك فوق تلك التفاصيل التافهة وتدفع راضيا مطمئنا هذا الرقم القابع فى نهاية الفاتورة. مع الوقت تعودت هذه الروح أن يكون لها وجهان، وجه حالم، ووجه ذئب يتشمم الخطأ فى الفاتورة. يوميا كنت أكتشف عشرين أو ثلاثين جنيها زائدة. الغريب أننا كنا نعود للبار وكأن شيئا لم يحدث. هذا الخطأ فى الحساب، كان مثل نسبة الخطأ فى الحياة كلها التى تلفنا من كل جانب، والذى ستضبط نفسك عليه لأن لاحياة أخرى بلا أخطاء واضحة. هذا الازدواج فى عم جمعة، الترحاب الذى يقابلنا به، وخنجر الغش الذى يضعه فى ظهورنا؛ أصبح عاديا، كأنك تلوك لبانة مسمومة؛ وليس سببا فى أى مؤاخذة توجه إليه. عند تصحيح فاتورة الحساب بعد فاصل من الجمع والطرح وسؤال كل واحد من الشلة عن عدد زجاجات البيرة التى شربها والأطباق التى طلبها، كل هذا كان يدور فى جو ودى متسامح من الطرفين، تسامح مدرس حساب فى درس خصوصي يقوم بتصحيح الواجب لأحد التلاميذ البلداء.
هشام، كان أحد الجرسونات الذين مازالوا متشبثين بذاكرتى بالرغم من امتناعه عن العمل فى البار منذ نهاية التسعينيات. كان قد أنهى دراسته المتوسطة. كانت له حركات أنثوية واضحة، فى السير، والغنج، والتدلل على الزبائن. منهم من كان يقبله فى فمه، وتسمع صوت طرقعة قبلة هشام على خد الضيف. ومنهم من كان يقرصه فى خده المكلبظ، أو مؤخرته المنتفشة، فيمثل بحركة راقصة من جسده مباغتته بهذه القرصة المفاجئة. كان عم جمعة يترك له الحبل على الغارب فى معاملاته مع الزبائن، وعادة لم تكن هناك تقاليد مرعية فى التعامل سوى استدراج الزبائن واستنزاف أموالهم. طبعا هشام كان "لقطة" بالنسبة لعم جمعة، فهو يعمل " بقلب مخلص" وهو يقدم المشروبات للرجال.
فى بداية الألفية الجديدة أصبح البار مقصداً لمجموعات من المثليين المصريين والأجانب، وربما كان هشام هو رأس الحربة لهذه المجموعات. قبلات مسروقة، وعناق، وأكتاف متشابكة فى الرقص. سلاسل وحواجب منتوفة. أصبح للبار زمناً خنثويا غير مريح. وجود المثليين كان يشحن البار بجو عدائي. ويصاحبه على الدوام رغبة مكبوتة، وأحيانا عدوانية، منهم فى الإعلان عن هوياتهم التي تأخر الإعلان عنها. فى بداية الألفية بدأت هذه الجماعات تعلن عن نفسها، وتتخذ أماكن خاصة للجلوس والسهر بها. بعكس الثمانينيات والتسعينيات، كنت تراهم فرادى فى الشوارع، يلتقون ببعضهم البعض عن طريق الصدفة، والبحث المضني فى الشوارع. كانوا أيضا مثل أعضاء فى جماعة سرية.
كان هشام دائم التودد لى ولأصدقائي. يشعرنا دائما بأنه يعاملنا معاملة خاصة. كان نفس السلوك يكرره مع آخرين فى سن الشباب. فى إحدى المرات بعد ان أسرفت فى الشراب، بدأت دموعي تنهمر بدون إرادة مني. عندها شعرت بحدة رده علي وأنا اطلب منه زجاجة بيرة، ثم تجرأ علي في الحديث بقلة أدب.كان ينتقم من " المثال" الذى انهار أمامه، ولم يتوقع أنه يبكي. لقد خذلته فى إحدى صفات الذكورة الغالية عليه. تكرر نفس السلوك مع آخرين، عندما اكتشف أن لهم صديقات. فى وجودهن كان يتصرف بلامبالاة، وأحيانا بتعال كأنه أتى من طبقة نبيلة. كان يثق فى مثليته ثقة عمياء، ولا يخجل منها. أيضا لم نأخذ رد فعل تجاهه، ولم نبلغ عم جمعة عن هذه الإساءة، ربما لنطيل زمن الفرجة على فرادة آلام الغيرة المثلية.
البار كان مكانا للقاء جماعات سرية، لاتنوي قلب نظام الحكم، ولكن لكي تحافظ على مضيق المتعة هذا. وربما كان أيضا أحد البارات التى قابل فيها لورانس داريل "الشيخ" أو الشاعر اليوناني كفافيس، كما كان يلقبه فى رباعيته عن الإسكندرية. فالبار يقع وسط المسار اليومي لداريل الذي كان يعمل على بعد خطوات منه، فى مكتب المخابرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية. وكذلك بالقرب من بيت كفافيس، الذى كان يخرج ليلا عطشانا يبحث عن المتعة.
عند لحظة الخروج فى الشتاء، يلف كل منا شاله حول رقبته، ويعقد أزرار جاكتته، أمام لفحات الهواء البارد الذى ينتظرنا خارج البار. يقوم عم جمعة لينحني مرة أخرى ويودعنا، مؤكدا على الميعاد القادم. ننسحب فى مضيق شارع أديب ومنه لشارع سعد زغلول، بحثا عن تاكسي، وأنت تتكتم الرائحة التى تفوح من فمك، حتى لاتختلط بهواء التاكسي الدافىء.